تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع

 
بوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

منتديات فارس أون لاين ::   ::   :: منتديات العالم الأسلامي ::   :: قسم الفتاوي :: قائمة بالعلماء و المفتين :: شيخ الإسلام ابن تيمية

 
شاطر
بيانات كاتب الموضوع
تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع
كاتب الموضوعرسالة
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مراقــب عام
الرتبه:
مراقــب عام
الصورة الرمزية
 

البيانات
عدد المساهمات : 802
نقاط : 84915
التقيم : 5
تاريخ التسجيل : 11/04/2010
 
 

 

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:

 

موضوع: تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع  تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع  Emptyالأحد سبتمبر 26, 2010 11:33 pm






السؤال:

تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع

المفتي:

شيخ الإسلام ابن تيمية

الإجابة:

وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، لما ذكر له بعض اليهود أن اللّه يحمل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والثَّرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع؛ فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً لقول الحَبْرِ، وقرأ هذه الآية.‏‏‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أبا القاسم، ما تقول إذا وضع اللّه السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال والماء على ذه، وسائر الخلق على ذه‏؟‏ فأنزل اللّه تعالى‏:‏‏‏‏‏{ ‏ ‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ‏‏‏‏} رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الضحى عن ابن عباس، وقال‏:‏ غريب حسن صحيح‏.‏‏‏‏

وهذا يقتضى أن عظمته أعظم ما وصف ذلك الحبْر، فإن الذي في الآية أبلغ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين ملوك الأرض‏"‏‏.‏‏‏

‏ وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏ "يطوي اللّه السموات يوم القيامة، ثـم يأخذهـن بيـده اليمنى، ثـم يقـول‏:‏ أيـن الملوك‏؟‏أيـن الجبارون‏؟‏ أيـن المتكبرون‏؟‏‏" ورواه مسلم أبسط من هذا، وذكر فيه أنه يأخذ الأرض بيده الأخرى‏.‏‏‏‏

وقد روى ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، ثنا عمرو بن رافع، ثنا يعقوب بن عبد اللّه، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ تكلمت اليهود في صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا ما لم يعلموا ولم يروا، فأنزل اللّه على نبيه‏‏:‏‏‏‏‏{ ‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏‏‏‏‏} فجعــل صفته التي وصفوه بها شركا‏.‏‏‏‏

وقال‏:‏ حدثنا أبي، ثنا أبو نعيم، ثنا الحكم يعني أبا معاذعن الحسن، قال‏:‏ عمدت اليهود فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فرغوا أخذوا يقدرونه، فأنزل اللّه تعالى على نبيه‏:‏‏‏‏‏{ ‏‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏‏‏‏‏} ، وهذا يدل على أنه أعظم مما وصفوه، وأنهم لم يقدروه حق قدره‏.‏‏‏‏

وقوله ‏:‏‏‏‏‏{عَمَّا يُشْرِكُونَ‏ ‏‏‏‏‏}‏ فكل من جعل مخلوقاً مثلا للخالق في شيء من الأشياء فأحبه مثل ما يحب الخالق، أو وصفه بمثل ما يوصف به الخالق فهو مشرك، سوى بين اللّه وبين المخلوق في شيء من الأشياء فعدل بربه، والرب تعالى لا كفؤ له، ولا سَمِيّ له، ولا مثل له، ومن جعله مثل المعدوم والممتنع فهو شر من هؤلاء، فإنه معطل ممثل، والمعطل شر من المشرك‏.‏‏‏‏

واللّه ثني قصة فرعون في القرآن في غير موضع؛ لاحتياج الناس إلى الاعتبار بها، فإنه حصل له من الملك ودعوى الربوبية والإلهية والعلو ما لم يحصل مثله لأحد من المعطلين، وكانت عاقبته إلى ما ذكر اللّه تعالى، وليس للّه صفة يماثله فيها غيره، فلهذا لم يجز أن يستعمل في حقه قياس التمثيل، ولا قياس الشمول الذي تستوي أفراده، فإن ذلك شرك، إذ سوى فيه بالمخلوق، بل قياس الأولى، فإنه سبحانه ‏{‏‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏ ‏‏‏‏} ‏[‏الروم‏:‏27‏]‏‏.‏فهو أحق من غيره بصفات الكمال، وأحق من غيره بالتنزيه عن صفات النقص‏.‏‏‏‏

وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، وبين أن من جعله الوجود المطلق والمقيد بالسلب أو ذاتاً مجردة، فهؤلاء مثلوه بأنقص المعقولات الذهنية، وجعلوه دون الموجودات الخارجية، والنفاة الذين قصدوا إثبات حدوث العالم بإثبات حدوث الجسم لم يثبتوا بذلك حدوث شيء، كما قد بين في موضعه‏.‏‏‏‏

ثم إنهم جعلوا عمدتهم في تنزيه الرب عن النقائص على نفي الجسم، ومن سلك هذا المسلك لم ينزه اللّه عن شىء من النقائص البتة،فإنه ما من صفة ينفيها؛ لأنها تستلزم التجسيم وتكون من صفات الأجسام إلا يقال له‏:‏ فيما أثبته نظير ما يقوله هو في نفس تلك الصفة‏.‏‏‏

‏ فإن كان مثبتاً لبعض الصفات قيل له‏:‏ القول في هذه الصفة التي تنفيها كالقول فيما أثبته، فإن كان هذا تجسيماً وقولاً باطلاً فهذا كذلك، وإن قلت‏:‏ أنا أثبت هذا على الوجه الذي يليق بالرب، قيل له‏:‏ وكذلك هذا‏‏.‏

‏ وإن قلت‏:‏ أنا أثبته وأنفى التجسيم، قيل‏:‏ وهذا كذلك، فليس لك أن تفرق بين المتماثلين‏.‏‏‏

‏ وإن كان ممن يثبت الأسماء وينفي الصفات كالمعتزلة قيل له في الصفات ما يقوله هو في الأسماء، فإذا كان يثبت حيا عالماً قادراً، وهو لا يعرف من هو متصف بذلك إلا جسماً كان إثبات أن له علماً وقدرة، كما نطق به الكتاب والسنة كذلك‏.‏‏‏‏

وإن كان ممن لا يثبت لا الأسماء ولا الصفات كالجهمية المحضة والملاحدة، قيل له‏:‏ فلابد أن تثبت موجوداً قائماً بنفسه، وأنت لا تعرف ذلك إلا جسماً، وإن قال‏:‏ لا أسميه باسم لا إثبات ولا نفي، قيل له‏:‏ سكوتك لا ينفي الحقائق، ولا واسطة بين النفي والإثبات، فإما أن يكون حقاً ثابتاً موجوداً، وإما أن يكون باطلاً معدوماً‏.‏‏‏

‏ وأيضاً، فإن كنت لم تعرفه فأنت جاهل فلا تتكلم، وإن عرفته فلابد أن تميز بينه وبين غيره بما يختص به، مثل أن تقول‏:‏ رب العالمين، أو القديم الأزلي، أو الموجود بنفسه ونحو ذلك، وحينئذ فقد أثبت حياً موجوداً قائماً بنفسه، وأثبته فاعلاً وأنت لا تعرف ما هو كذلك إلا الجسم‏.‏‏‏

‏ وإن قدر أنه جاحد له قيل له‏:‏ فهذا الوجود مشهود، فإن كان قديماً أزلياً موجوداً بنفسه فقد يثبت جسم قديم أزلي موجود بنفسه وهو ما فررت منه، وإن كان مخلوقاً مصنوعاً فله خالق خلقه، ولابد أن يكون قديماً أزلياً، فقد ثبت الموجود القائم بنفسه القديم الأزلي على كل تقدير، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏‏‏‏

وهنا قد نبهنا على ذلك، هو أنه كل من بني تنزيهه للرب عن النقائص والعيوب على نفي الجسم، فإنه لا يمكنه أن ينزهه عن عيب أصلاً بهذه الحجة، وكذلك من جعل عمدته نفي التركيب‏.‏‏‏‏

ومن تدبر ما ذكروه في كتبهم تبين له أنهم لم يقيموا حجة على وجوده، فلا هم أثبتوه وأثبتوا له ما يستحقه، ولا نزهوه ونفوا عنه ما لا يجوز عليه، إذ كان إثباته هو إثبات حدوث الجسم، ولم يقيموا على ذلك دليلاً، والنفي اعتمدوا فيه على ذلك، وهم متناقضون فيه لو كانوا أقاموا دليلا على نفي كونه جسماً، فكيف إذا لم يقيموا على ذلك دليلاً وتناقضوا‏؟‏‏!‏ وهذا مما يتبين لك أن من خرج عن الكتاب والسنة، فليس معه علم لا عقلي ولا سمعي، لاسيما في هذا المطلوب الأعظم، لكنهم قد يكونون معتقدين لعقائد صحيحة عرفوها بالفطرة العقلية، وبما سمعوه من القرآن ودين المسلمين، فقلوبهم تثبت ما تثبت وتنفي ما تنفي بناء على هذه الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة، لكنهم سلكوا هذه الطرق البدعية، وليس فيها علم أصلا، ولكن يستفاد من كلامهم إبطال بعضهم لقول المبطل الآخر، وبيان تناقضه‏.‏‏‏

‏ ولهذا لما ذكروا المقالات الباطلة في الرب جعلوا يردونها بأن ذلك تجسيم، كما فعل القاضي أبو بكر في هداية المسترشدين وغيره، فلم يقيموا حجة على أولئك المبطلين، وردوا كثيراً مما يقول اليهود بأنه تجسيم، وقد كان اليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكانوا أحياناً يذكرون له بعض الصفات، كحديث الحبر، وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم‏:‏ {‏‏إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ‏ ‏‏‏‏} ‏[‏ آل عمران‏:‏ 181‏]‏ وأن يده مغلولة وغير ذلك، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط أنهم يجسمون، ولا أن في التوراة تجسيماً ولا عابهم بذلك، ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله من النفاة‏.‏‏‏‏

فتبين أن هذه الطريقة مخالفة للشرع والعقل، وأنها مخالفة لما بعث اللّه به رسوله، ولما فطر عليه عباده، وأن أهلها من جنس الذين ‏ {‏وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏ ‏‏‏‏} ‏[‏الملك‏:‏10‏]‏ وقد بينا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره الرازي من أن طريقة الوجوب والإمكان من أعظم الطرق، وبينا فسادها وأنها لا تفيد علماً، وأنهم لم يقيموا دليلا على إثبات واجب الوجود، وأن طريقة الكمال أشرف منها وعليها اعتماد العقلاء قديماً وحديثاً، وهو قد اعترف في آخر عمره بأنه قد تأمل الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما وجدها تشفى عليلا، ولا تروى ‏[‏في المطبوعة‏: ‏ترى والصواب ما أثبتناه‏]‏ غليلاً، ووجد أقرب الطرق طريقة القرآن‏.‏‏‏‏

وطريقة الوجوب والإمكان لم يسلكها أحد قبل ابن سينا، وهو أخذها من كلام المتكلمين الذين قسموا الوجود إلى محدث وقديم، فقسمه هو إلى واجب وممكن؛ ليمكنه القول بأن الفلك ممكن مع قدمه، وخالف بذلك عامة العقلاء من سلفه وغير سلفه، وخالف نفسه، فإنه قد ذكر في المنطق ما ذكره سلفه من أن الممكن لا يكون إلا محدثاً، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع‏.‏‏‏

‏ ثم إن هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة انتهت بهم إلى قول فرعون؛ فإن فرعون جحد الخالق، وكذب موسى في أن اللّه كلمه، وهؤلاء ينتهي قولهم إلى جحد الخالق، وإن أثبتوه قالوا‏:‏ إنه لا يتكلم، ولا نادى أحداً ولا ناجاه‏.‏‏‏‏

وعمدتهم في نفي ذاته على نفي الجسم، وفي نفي كلامه وتكليمه لموسى على أنه لا تحله الحوادث، فلا يبقى عندهم رب ولا مرسل‏.‏‏‏‏

‏ فحقيقة قولهم يناقض شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه؛ فإن الرسول هو المبلغ لرسالة مرسله، والرسالة هي كلامه الذي بعثه به، فإذا لم يكن متكلماً لم تكن رسالة‏.‏‏‏‏

‏ ولهذا اتفق الأنبياء على أن اللّه يتكلم، ومن لم يقل‏:‏ إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلاماً يقوم بذاته، لم يقل‏:‏ إنه يتكلم‏.‏ والنفاة منهم من يقول‏:‏ الكلام صفة فعل؛ بمعنى أنه مخلوق بائن عنه، ومنهم من يقول‏:‏ هو صفة ذات؛ بمعنى أنه كالحياة يقوم بذاته، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل طائفة مصيبة في إبطال باطل الأخرى‏‏.‏‏‏‏

‏ والدليل يقوم على أنه صفة ذات وفعل تقوم بذات الرب، والرب يتكلم بمشيئته وقدرته، فأدلة من قال‏:‏ إنه صفة فعل كلها إنما تدل على أنه يتكلم بقدرته ومشيئته وهذا حق، وأدلة من قال‏:‏ إنه صفة ذات إنما تدل على أن كلامه يقوم بذاته وهذا حق، وأما من أثبت أحدهما كمن قال‏:‏ إن كلامه مخلوق، أو قال‏:‏ إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، فهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا أنه يتكلم، ولا أثبتوا له كلاماً؛ ولهذا يقولون ما لا يعقل‏.‏ هذا يقول‏:‏ إنه معنى واحد قام بالذات، وهذا يقول‏:‏ حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته، وهذا يقول‏:‏ مخلوق بائن عنه‏‏.‏‏‏‏

‏ ولهذا لما ظهر لطائفة من أتباعهم ما في قولهم من الفساد، ولم يعرفوا عين هذه الأقوال الثلاثة حاروا وتوقفوا، وقالوا‏:‏ نحن نقر بما عليه عموم المسلمين من أن القرآن كلام اللّه، وأما كونه مخلوقاً أو بحرف وصوت أو معنى قائم بالذات فلا نقول شيئاً من هذا‏.‏‏‏‏

‏ ومعلوم أن الهدى في هذه الأصول ومعرفة الحق فيها هو معرفة ما جاء به الرسول، وهو الموافق لصريح المعقول، أنفع وأعظم من كثير مما يتكلمون فيه من العلم، لاسيما والقلوب تطلب معرفة الحق في هذه بالفطرة، ولما قد رأوا من اختلاف الناس فيها‏‏.‏‏‏‏

وهؤلاء يذكرون هذا الوقف في عقائدهم وفيما صنفوه في أصول الدين، كما قد رأيت منهم من أكابر شيوخ العلم والدين بمصر والشام قد صنفوا في أصول الدين ما صنفوه، ولما تكلموا في ‏[‏مسألة القرآن‏]‏ وهل هو مخلوق‏؟‏ أو قديم‏؟‏ أو هو الحروف والأصوات‏؟‏ أو معنى قائم بالذات‏؟‏ نهوا عن هذه الأقوال، وقالوا‏:‏الواجب أن يقال ما قاله المسلمون كلهم‏:‏ إن القرآن كلام اللّه، ويمسك عن هذه الأقوال‏.‏‏‏‏

وهؤلاء توقفوا عن حيرة وشك، ولهم رغبة في العلم والهدى والدين، وهم من أحرص الناس على معرفة الحق في ذلك وغيره، لكن لم يعلموا إلا هذه الأقوال الثلاثة‏.‏

قول المعتزلة، والكلابية، والسالمية وكل طائفة تبين فساد قول الأخرى، وفي كل قول من الفساد ما يوجب الامتناع من قبوله، ولم يعلموا قولاً غير هذه فرضوا بالجهل البسيط، وكان أحب إليهم من الجهل المركب، وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا هؤلاء على أصل قولهم ودينهم، وهو الاستدلال على حدوث الأجسام وحدوث العالم بطريقة أهل الكلام المبتدع، كما سلكها من ذكرته من أجلاء شيوخ أهل العلم والدين، والاستدلال على إمكانها بكونها مركبة كما سلك الشيخ الآخر، وهذا ينفي عن الواجب أن يكون جسماً بهذه الطريقة، وذلك نفي عنه أنه جسم بتلك الطريقة‏‏.‏‏‏‏

‏ وحذاق النظار الذين كانوا أخبر بهذه الطرق وأعظم نظراً واستدلالاً بها وبغيرها قد عرفوا فسادها، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏‏.‏‏‏‏

‏ واللّّه سبحانه قد أخبر أنه{ ‏‏أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ‏‏‏‏‏‏} ‏[‏التوبة‏:‏33، الفتح‏:‏28، الصف‏:‏9‏]‏ وأخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏.‏‏‏‏

والله سبحانه يجزي الإنسان بجنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه‏.‏‏‏‏

فإن كان قد قدح فيهم ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل، ابتلى في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به‏.‏‏‏‏

ومن قال عنهم‏:‏ إنهم تعمدوا الكذب، أظهر اللّه كذبه‏.‏

ومن قال‏:‏ إنهم جهال، أظهر اللّه جهله، ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى‏:‏ إنه ساحر كذاب، أخبر اللّه بذلك عنهم في قوله‏:‏{ ‏‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ‏.‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏ ‏‏‏‏} ‏[‏غافر‏:‏23-24‏]‏ وطلب فرعون إهلاكه بالقتل وصار يصفه بالعيوب، كقوله‏:‏‏{ ‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ‏‏‏‏‏‏} ‏[‏غافر‏:‏26‏]‏، وقال‏:‏‏ {‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين‏‏‏‏‏} ‏[‏الزخرف‏:‏52‏]‏‏‏.‏‏‏‏

‏ أهلك اللّه فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على اللّه وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع، فلم يبين حجة‏‏.‏‏‏‏

‏ وفرعون هذه الأمة أبو جهل كان يسمى أبا الحكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أبا جهل، وهو كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو جهل، أهلك به نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة‏‏.‏‏‏‏

والذين قالوا عن الرسول‏:‏ إنه أبتر، وقصدوا أنه يموت فينقطع ذكره، عوقبوا بانبتارهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ‏‏‏‏} ‏‏[‏الكوثر‏:‏ 3‏]‏ فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره اللّه حتى أهل البدع المخالفون لسنته‏.‏ قيل لأبي بكر بن عياش ‏[‏هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي، وثقه ابن معين وعبد اللّه بن أحمد بن حنبل وابن حبان، ولد سنة خمس أو ست وتسعين، وقيل‏:‏ إنه مات في سنة ثلاث وتسعين ومائة‏]‏‏:‏ إن بالمسجد قوماً يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة، فقال‏:‏ من جلس للناس جلس الناس إليه، لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم‏‏.‏‏‏‏

وهؤلاء المشبهون لفرعون الجهمية نفاة الصفات، الذين وافقوا فرعون في جحده، وقالوا‏:‏ إنه ليس فوق السموات، وإن اللّه لم يكلم موسى تكليماً، كما قال فرعون‏:‏‏{ ‏‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً‏‏‏‏‏} ‏[‏غافر‏:‏36- 37‏]‏‏‏.‏‏‏‏

وكان فرعون جاحداً للرب، فلولا أن موسى أخبره أن ربه فوق العالم لما قال‏‏:‏‏{ ‏‏فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً‏‏‏‏‏‏‏} ، قال تعالى‏:‏ ‏‏:‏‏{‏وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ‏‏‏‏‏‏} [‏غافر‏:‏37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏‏:‏‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ‏‏‏‏‏‏‏} [‏القصص‏:‏38 ـ 42‏]‏‏‏.‏‏‏‏

‏ ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى ربه، وفرض عليه الصلوات الخمس، ذكر أنه رجع إلى موسى، وأن موسى قال له‏:‏ ارجع إلى ربك فَسَلْهُ التخفيف إلى أمتك، كما تواتر هذا في أحاديث المعراج، فموسى صدق محمداً في أن ربه فوق، وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق، فالمقرون بذلك متبعون لموسى ومحمد، والمكذبون بذلك موافقون لفرعون‏‏.‏‏‏‏

وهذه الحجة مما اعتمد عليها غير واحد من النظار، وهي مما اعتمد عليها أبو الحسن الأشعري في كتابه ‏[‏الإبانة‏]‏ وذكر عدة أدلة عقلية وسمعية، على أن اللّه فوق العالم وقال في أوله‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول الجهمية، والقدرية، والخوارج والروافض، والمعتزلة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون‏؟‏ قيل له‏:‏ قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها‏:‏ التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما جاء عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وبما كان يقول به أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قوله مجانبون، فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان اللّه به الحق، وأوضح به المناهج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمه اللّه من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين‏.‏‏‏‏

‏ وذكر جملة الاعتقاد والكلام على علو اللّه على العرش، وعلى الرؤية ومسألة القرآن ونحو ذلك، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏‏.‏‏‏‏

‏ والمقصود هنا أن المعطلة نفاة الصفات أو نفاة بعضها لا يعتمدون في ذلك على ما جاء به الرسول؛ إذ كان ما جاء به الرسول إنما يتضمن الإثبات لا النفي، لكن يعتمدون في ذلك على ما يظنونه أدلة عقلية، ويعارضون بذلك ما جاء به الرسول‏.‏‏‏‏

‏ وحقيقة قولهم أن الرسول لم يذكر في ذلك ما يرجع إليه لا من سمع ولا عقل، فلم يخبر بذلك خبراً بين به الحق على زعمهم، ولا ذكر أدلة عقلية تبين الصواب في ذلك على زعمهم، بخلاف غير هذا، فإنهم معترفون بأن الرسول ذكر في القرآن أدلة عقلية على ثبوت الرب، وعلى صدق الرسول‏.‏‏‏‏

وقد يقولون أيضاً‏:‏ إنه أخبر بالمعاد؛ لكن نفوا الصفات لما رأوا أن ما ذكروه من النفي لم يذكره الرسول، فلم يخبر به ولا ذكر دليلا عقلياً عليه، بل إنما ذكر الإثبات، وليس هو في نفس الأمر حقاً، فأحوج الناس إلى التأويل أو التفويض، فلما نسبوا ما جاء به الرسول إلى أنه ليس فيه لا دليل سمعي ولا عقلي،لا خبر يبين الحق ولا دليل يدل عليه، عاقبهم اللّه بجنس ذنوبهم، فكان ما يقولونه في هذا الباب خارجاً عن العقل والسمع، مع دعواهم أنه من العقليات البرهانية، فإذا اختبره العارف وجده من الشبهات الشيطانية، من جنس شبهات أهل السفسطة والإلحاد، الذين يقدحون في العقليات والسمعيات‏.‏‏‏‏

وأما السمع فخلافهم له ظاهر لكل أحد، وإنما يظن من يعظمهم ويتبعهم أنهم أحكموا العقليات، فإذا حقق الأمر وجدهم، كما قال أهل النار‏‏:‏‏{‏ ‏وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير‏‏‏‏‏‏‏} ‏[‏الملك‏:‏10‏]‏ وكما قال تعالى‏‏‏:‏‏{‏ ‏‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏‏‏‏‏‏‏} ‏‏[‏النور‏:‏39- 40‏]‏‏‏.‏‏‏‏

‏ فلما كان حقيقة قولهم‏:‏ إن القرآن والحديث ليس فيه في هذا الباب دليل سمعي ولا عقلي سلبهم اللّه في هذا الباب معرفة الأدلة السمعية والعقلية، حتى كانوا من أضل البرية مع دعواهم أنهم أعلم من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، بل قد يدعون أنهم أعلم من النبيين، وهذا ميراث من فرعون وحزبه اللعين‏‏.‏‏‏‏

‏ وقد قيل‏:‏ إن أول من عرف أنه أظهر في الإسلام التعطيل الذي تضمنه قول فرعون هو الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري ‏[‏هو خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري، وثقه ابن حبان، وقد ولاه هشام بن عبد الملك على العراق عام ست ومائة ثم عزله سنة خمس وعشرين ومائة، وقتل سنة ست وعشرين ومائة‏]‏، وقال‏:‏ أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، إني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى اللّه عما يقول الجعد علواً كبيراً‏.‏ ثم نزل فذبحه، وشكر له علماء المسلمين ما فعله، كالحسن البصري وغيره‏‏.‏‏‏‏

‏ وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم اللّه ممن خالف الرسل، وانتصر لهم؛ ولهذا لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم، وهو حقيقة قول فرعون ‏[‏إنكار الصانع وإنكار عبادته‏]‏، وخيار ما كانوا يتظاهرون به الرفض، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد، حتى كان من كان ينزل الشام مثل بني حمدان الغالية ونحوهم متشيعين، وكذلك من كان من بني بويه في المشرق‏‏.‏‏‏‏

وكان ابن سينا وأهل بيته من أهل دعوتهم، قال‏:‏ وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة، وكان مبدأ ظهورهم من حين تولى المقتدر، ولم يكن بلغ بعد، وهو مبدأ انحلال الدولة العباسية، ولهذا سمي حينئذ بأمير المؤمنين الأموي الذي كان بالأندلس، وكان قبل ذلك لا يسمى بهذا الاسم، ويقول‏:‏ لا يكون للمسلمين خليفتان، فلما ولى المقتدر قال‏:‏ هذا صبي لا تصح ولايته، فسمى بهذا الاسم‏‏.‏‏‏‏

‏ وكان بنو عبيد اللّه القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلاً كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين‏‏.‏‏‏‏

فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئاً بعد شىء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة‏.‏‏‏‏

فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سبباً لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة‏‏.‏‏‏‏

فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم اللّه على الكفار؛ تحقيقاً لقوله‏‏:‏‏{ ‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏‏‏‏‏‏‏} ‏‏[‏الصف‏:‏10 ـ 13‏]‏‏‏.‏‏‏‏

‏ وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار، قال تعالى‏‏‏:‏‏{ ‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏} [‏الإسراء‏:‏ 4 ـ 8‏]‏.‏‏‏‏

وكان بعض المشايخ يقول‏:‏ هولاكو ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق، وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جداً، يقال‏:‏ قتل منهم ألف ألف، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ، كان بعض الشيوخ يقول‏:‏ هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل‏‏.‏‏‏‏

وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتاباً في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر، سماه ‏[‏السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم‏]‏، ويقال‏:‏ إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه،وكان من أعظم ملوك الأرض،وكان للرازي به اتصال قوي،حتى إنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتاباً سماه ‏[‏الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية‏]‏‏‏.‏‏‏‏

‏ وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، كما قال جابر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول "إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل‏:‏اللهم إني أستخبرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسميه باسمه خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، و يسره، ثم بارك فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به‏"‏‏‏.‏‏‏‏

‏ وأهل النجوم لهم اختيارات إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعاً سعيداً، فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم‏‏.‏

وقد صنف الناس كتباً في الرد عليهم، وذكروا كثرة ما يقع من خلاف مقصودهم فيما يخبرون به ويأمرون به، وكم يخبرون من خبر فيكون كذباً، وكم يأمرون باختيار فيكون شراً، والرازي صنف الاختيارات لهذا الملك، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك، كما ذكر في ‏[‏السر المكتوم‏]‏ في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها، والشرك بها ودعائها، مثلما يدعو الموحدون ربهم، بل أعظم، والتقرب إليها بما يظن أنه مناسب لها من الكفر والفسوق والعصيان، فذكر أنه يتقرب إلى الزهرة بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء، ونحو ذلك مما حرمه اللّه ورسوله‏‏.‏‏‏‏

‏ وهذا في نفس الأمر يقرب إلى الشياطين، الذين يأمرونهم بذلك ويقولون لهم‏:‏ إن الكوكب نفسه يحب ذلك، وإلا فالكواكب مسخرات بأمر اللّه مطيعة للّه، لا تأمر بشرك ولا غيره من المعاصي، ولكن الشياطين هي التي تأمر بذلك ويسمونها روحانية الكواكب، وقد يجعلونها ملائكة وإنما هي شياطين، فلما ظهر بأرض المشرق بسبب مثل هذا الملك ونحوه، ومثل هذا العالم ونحوه ما ظهر من الإلحاد والبدع سلط اللّه عليهم الترك المشركين الكفار، فأبادوا هذا الملك، وجرت له أمور فيها عبرة لمن يعتبر، ويعلم تحقيق ما أخبر اللّه به في كتابه، حيث يقول‏‏‏:‏‏{‏ ‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏‏‏‏‏‏‏‏‏} [‏فصلت‏:‏53‏]‏ أي أن القرآن حق، وقال‏‏:‏‏{ ‏سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُون‏‏‏‏‏‏‏}ِ‏‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏‏‏‏

‏ والمقصود هنا أن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل وغيره من الأسباب، التي أوجبت إدبارها، وفي آخر دولتهم ظهر الجهم بن صفوان بخراسان، وقد قيل‏:‏ إن أصله من ترمذ وأظهر قول المعطلة النفاة الجهمية، وقد قتل في بعض الحروب، وكان أئمة المسلمين بالمشرق أعلم بحقيقة قوله من علماء الحجاز والشام والعراق؛ ولهذا يوجد لعبد اللّه بن المبارك وغيره من علماء المسلمين بالمشرق من الكلام في الجهمية أكثر مما يوجد لغيرهم، مع أن عامة أئمة المسلمين تكلموا فيهم، ولكن لم يكونوا ظاهرين إلا بالمشرق، لكن قوى أمرهم لما مات الرشيد، وتولى ابنه الملقب بالمأمون بالمشرق، وتلقي عن هؤلاء ما تلقاه‏‏.‏‏‏‏

‏ ثم لما ولى الخلافة اجتمع بكثير من هؤلاء، ودعا إلى قولهم في آخر عمره، وكتب إلى بغداد وهو بالثغر بطرسوس التي ببلدسيس وكانت إذ ذاك أعظم ثغور بغداد، ومن أعظم ثغور المسلمين يقصدها أهل الدين من كل ناحية ويرابطون بها، رابط بها الإمام أحمد، رضي اللّه عنه، و السرى السقطى ‏[‏هو أبو الحسن السقطي البغدادي، ولد في حدود الستين ومائة، اشتهر بالصلاح والزهد والورع، وتوفى في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين‏]‏، وغيرهما، وتولي قضاءها أبو عبيد، وتولى قضاءها أيضاً صالح بن أحمد بن حنبل؛ ولهذا ذكرت في كتب الفقه كثيراً فإنها كانت ثغراً عظيماً فكتب من الثغر إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتاباً يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا‏:‏ القرآن مخلوق‏.‏ فلم يجبه أحد‏‏.‏‏‏‏

‏ ثم كتب كتاباً ثانياً يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه، فأجاب أكثرهم، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا، فأجاب منهم خمسة بعد القيد، وبقى اثنان لم يجيبا‏:‏ الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه، ثم أوصي إلى أخيه أبي إسحاق، وكان هذا سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقى أحمد في الحبس إلى سنة عشرين، فجرى ما جرى من المناظرة حتى قطعهم بالحجة، ثم لما خافوا الفتنة ضربوه وأطلقوه، وظهر مذهب النفاة الجهمية، وامتحنوا الناس فصار من أجابهم أعطوه وإلا منعوه العطاء وعزلوه من الولايات، ولم يقبلوا شهادته، وكانوا إذا افتكوا الأسرى يمتحنون الأسير، فإن أجابهم افتدوه وإلا لم يفتدوه‏‏.‏‏‏‏

‏ وكتب قاضيهم أحمد بن أبي دؤاد ‏[‏هو أحمد بن أبي دؤاد القاضي الأباري، ولي القضاء للمعتصم والواثق، وكان موصوفاً بالجود وحسن الخلق، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وكان أحمد بن حنبل يطلق عليه الكفر، ولد سنة ستين ومائة، وتوفى سنة أربعين ومائتين من فالج أصابه‏]‏ على ستارة الكعبة ‏[‏ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم‏]‏، لم يكتب وهو ‏‏‏‏{‏‏السَّمِيعُ البَصِيرُ‏‏‏‏‏‏‏}‏‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏‏.‏‏‏‏

‏ ثم ولي الواثق واشتد الأمر إلى أن ولى المتوكل فرفع المحنة، وظهرت حينئذ السُّنَّة، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏‏‏‏

والمقصود أن أئمة المسلمين لما عرفوا حقيقة قول الجهمية بينوه، حتى قال عبد اللّه بن المبارك‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وكان ينشد‏:‏ ‏‏‏‏‏

عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ** إلى النار واشتق اسمه من جهنم وقيل له‏:‏ بماذا يعرف ربنا‏؟‏ قال‏:‏ بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، قيل له‏:‏ بِحَدٍّ ‏؟‏ قال‏:‏ بحد‏.‏‏‏‏

‏ وكذلك قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم من أئمة السنة‏.‏‏‏‏

وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه، كما كان فرعون يفعل، فكان يجحد الخالق جل جلاله، ويقول‏‏‏:‏‏{ ‏‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏‏‏‏‏‏‏‏‏} [‏القصص‏:‏38‏]‏، ويقول لموسى‏‏‏:‏‏{‏ ‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين‏‏‏‏‏‏‏‏‏} ‏[‏الشعراء‏:‏29‏]‏، ويقول‏‏‏:‏‏{‏‏ ‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏‏‏‏‏‏‏}‏‏[‏ النازعات‏:‏24‏]‏، وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو يكون لموسى إله فوق السموات، ويريد أن يبطل عبادة اللّه وطاعته، ويكون هو المعبود المطاع‏.‏‏‏‏

فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يؤول إلى قول فرعون، كان منتهى قولهم إنكار رب العالمين، وإنكار عبادته، وإنكار كلامه حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد والعرفان، فصاروا يقولون‏:‏ العالم هو اللّه، والوجود واحد، والموجود القديم الأزلي الخالق هو الموجود المحدث المخلوق، والرب هو العبد، ما ثم رب وعبد وخالق ومخلوق بل هو عندهم فرقان‏‏.‏‏‏‏

‏ ولهذا صاروا يعيبون على الأنبياء وينقصونهم؛ ويعيبون على نوح وعلى إبراهيم الخليل وغيرهما، ويمدحون فرعون، ويجوزون عبادة جميع المخلوقات، وجميع الأصنام، ولا يرضون بأن تعبد الأصنام حتى يقولوا‏:‏ إن عُبَّاد الأصنام لم يعبدوا إلا اللّه، وأن اللّه نفسه هو العابد وهو المعبود، وهو الوجود كله، فجحدوا الرب وأبطلوا دينه، وأمره ونهيه،وما أرسل به رسله، وتكليمه لموسى وغيره‏‏‏.‏‏‏‏

‏ وقد ضل في هذا جماعة لهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك، كابن سبعين، والصدر القونوي تلميذ ابن عربي والبلياني، والتلمساني، وهو من حذاقهم علماً ومعرفة، وكان يظهر المذهب بالفعل، فيشرب الخمر ويأتي المحرمات‏‏.‏‏‏‏

‏ وحدثني الثقة أنه قرأ عليه ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء اللّه العارفين، فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال‏:‏ فقلت له‏:‏ هذا الكلام يخالف القرآن، فقال‏:‏ القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول‏:‏ ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول‏‏.‏‏‏‏

‏ ‏ وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه‏:‏ هذا أيضاً هو ذات اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ وهل ثم شيء خارج عنها‏؟‏ نعم ‏!‏ الجميع في ذاته‏!‏ وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحداً فينافقه فلم يثبت الخالق، وإن كان في الباطن مقراً به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار، كما قال‏‏‏‏:‏‏{ ‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏‏‏‏‏‏‏‏‏} ‏‏[‏النمل‏:‏ 13- 14‏]‏‏‏‏.‏‏‏‏

‏ وأما هؤلاء فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال يحسبون أنهم على حق، وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معانداً مظهراً للجحود والعناد، وهؤلاء إما جُهَّال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر‏‏.‏‏‏‏

‏ ‏ وحدثني الشيخ عبد السيد الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلاماً، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له‏:‏ الشرف البلاسي، يطلب منه المعرفة والعلم، قال‏:‏ فدعاني إلى هذا المذهب فقلت له‏:‏ قولكم يشبه قول فرعون، قال‏:‏ ونحن على قول فرعون‏!‏ فقلت لعبد السيد‏:‏ واعترف لك بهذا ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب، فقلت له‏:‏ هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون، فحدثني بهذا، فقلت له‏:‏ ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يُحتاج إلى بينة، قال عبد السيد‏:‏ فقلت له‏:‏ لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، فقال‏:‏ ولم ‏؟‏ قلت‏:‏ لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد وكان هذا قبل أن يسلم‏:‏ نفعتك اليهودية، يهودي خير من فرعوني‏‏.‏‏‏‏

‏ ‏ وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه، وهم يحسبون أنه حق، و عامتهم الذين يقرون ظاهراً وباطناً بأن محمداً رسول اللّه، وأنه أفضل الخلق أفضل من جميع الأنبياء والأولياء لا يفهمون حقيقة قولهم، بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء اللّه فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل ابن عبد اللّه، وأمثال هؤلاء‏‏.‏‏‏‏

‏ وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك، ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه‏:‏ إن الأولياء أفضل من الأنبياء، وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة اللّه من مشكاة خاتم الأولياء، وإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء، فإنهم متجهمة متفلسفة، يخرجون أقوال المتفلسفة والجهمية في قالب الكشف‏‏.‏‏‏‏

‏ وعند المتفلسفة‏:‏ أن جبريل إنما هو خيال في نفس النبي، ليس هو ملكاً يأتي من السماء، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال، وأما خاتم الأولياء في زعمهم فإنه يأخذ من العقل المجرد الذي يأخذ منه الخيال؛ فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول‏‏.‏‏‏‏

‏ وهم يعظمون فرعون، ويقولون ما قاله صاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ قال‏:‏ ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي، لذلك قال‏‏‏‏:‏‏{ ‏‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏‏‏‏‏‏‏‏‏} ‏‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏ أي وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم‏.‏

‏ قال‏:‏ ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك‏.‏ وقالوا له‏‏‏:‏‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏} [‏طه‏:‏72‏]‏ قال‏:‏ فصح قول فرعون‏‏‏:‏‏{‏ ‏‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏‏‏‏‏‏‏‏‏} وإن كان فرعون عين الحق‏‏‏.‏‏‏‏

‏ وحدثني الثقة الذي كان منهم ثم رجع عنهم أن أبغض الناس إليهم محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ وإذا نَهَق الحمار ونَبَح الكلب سجدوا له، وقالوا‏:‏ هذا هو اللّه، فإنه مظهر من المظاهر‏‏‏.‏‏‏‏

‏ ‏ قال‏:‏ فقلت له‏:‏ محمد بن عبد اللّه أيضاً مظهر من المظاهر، فاجعلوه كسائر المظاهر، وأنتم تعظمون المظاهر كلها أو اسكتوا عنه، قال‏:‏ فقالوا لي‏:‏ محمد نبغضه؛ فإنه أظهر الفرق ودعا إليه، وعاقب من لم يقل به، قال‏:‏ فتناقضوا في مذهبهم الباطل، وجعلوا الكلب والحمار أفضل من أفضل الخلق، قال لي‏:‏ وهم يصرحون باللعنة له ولغيره من الأنبياء، ولا ريب أنهم من أعظم الناس عبادة للشيطان وكفراً بالرحمن‏‏.‏‏‏‏

‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا سمعتم صياح الديكة فَسَلُوا اللّه من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار ونباح الكلب فتعوذوا باللّه من الشيطان؛ فإنها رأت شيطاناً‏"، فهم إذا سمعوا نهيق الحمار ونباح الكلب تكون الشياطين قد حضرت، فيكون سجودهم للشياطين‏‏.‏‏‏‏

‏ ‏ وكان فيهم شيخ جليل من أعظمهم تحقيقاً لكن هذا لم يكن من هؤلاء الذين يسبون الأنبياء وقد صنف كتاباً سماه ‏[‏فك الأزرار عن أعناق الأسرار‏]‏ ذكر فيه مخاطبة جرت له مع إبليس، وأنه قال له ما معناه‏:‏ إنكم قد غلبتموني وقهرتموني ونحو هذا، لكن جرت لي قصة تعجبت منها مع شيخ منكم، فإني تجليت له فقلت‏:‏ أنا اللّه لا إله إلا أنا، فسجد لي، فتعجبت كيف سجد لي‏.‏

قال هذا الشيخ‏:‏ فقلت له‏:‏ ذاك أفضلنا وأعلمنا وأنت لم تعرف قصده،ما رأى في الوجود اثنين وما رأى إلا واحداً فسجد لذلك الواحد، لا يميـز بين إبليس وغيـره، فجعـل هـذا الشيخ ذاك الـذي سجـد لإبليس لا يميز بين الرب وغيره، بل جعل إبليس هو اللّه هو وغيره من الموجودات جعله أفضلهم وأعلمهم‏.

‏ ‏ ولهذا عاب ابن عربي نوحاً أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وهو الذي جعل اللّه ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً،وعظَّم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام، وأنهم ما عبدوا إلا اللّه، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه، وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم‏.

‏ ‏ ومدح عُبَّاد العجل، وتنقص هارون، وافترى على موسى، فقال‏:‏ وكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن اللّه قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما قضى اللّه بشىء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فذكر عن موسى أنه عتب على هارون أنه أنكر عليهم عبادة العجل، وأنه لم يسع ذلك فأنكره؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء‏.‏

‏ وهذا من أعظم الافتراء على موسى وهارون، وعلى اللّه، وعلى عُبَّاد العجل، فإن اللّه أخبر عن موسى أنه أنكر العجل إنكاراً أعظم من إنكار هارون، وأنه أخذ بلحية هارون لما لم يدعهم ويتبع موسى لمعرفته،قال تعالى‏‏‏‏‏:‏‏{ ‏‏ ‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَو















 الموضوع الأصلي : تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع //   المصدر : منتديات فارس أون لاين // الكاتب: Ø£Ù†ØµØ§Ø± السنة


المعلومات
الكاتب:
اللقب:
رئيس الوزراء
الرتبه:
رئيس الوزراء
الصورة الرمزية
 

البيانات
ذكر
عدد المساهمات : 1000
نقاط : 86803
التقيم : 1
تاريخ التسجيل : 06/01/2010
الموقع : https://faresonline.yoo7.com/
 
 

 

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://faresonline.yoo7.com/

 

موضوع: رد: تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع  تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع  Emptyالثلاثاء سبتمبر 20, 2011 9:30 pm






 تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع  Goodwayinlifecom91















 الموضوع الأصلي : تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع //   المصدر : منتديات فارس أون لاين // الكاتب: seif2


تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

مواضيع مماثلة

-
» فصل في أحوال أهل الضلال والبدع
» تابع مسألة اختلاف الناس على ثلاثة أنحاء
» فَصْـــل في إذا كان الضلال في القدر حصل ـ تارة ـ بالتكذيب بالقدر والخلق
» تابع فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها
» فصل تابع لمسألة قوم خصوا بالسعادة


الكلمات الدليلية (Tags)
لا يوجد


الــرد الســـريـع
..

هام جداً: قوانين المساهمة في المواضيع. انقر هنا للمعاينة
الرد السريع

خــدمات المـوضـوع
 KonuEtiketleri كلمات دليليه
تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع , تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع , تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع , تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع , تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع , تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع
 KonuLinki رابط الموضوع
 Konu BBCode BBCode
 KonuHTML Kodu HTMLcode
إذا وجدت وصلات لاتعمل في الموضوع او أن الموضوع [ تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع ] مخالف ,, من فضلك راسل الإدارة من هنا
>




مواضيع ذات صلة


 تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع  Cron
تصميم منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين