فصل في قدرة الرب عز وجل

 
بوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

منتديات فارس أون لاين ::   ::   :: منتديات العالم الأسلامي ::   :: قسم الفتاوي :: قائمة بالعلماء و المفتين :: شيخ الإسلام ابن تيمية

 
شاطر
بيانات كاتب الموضوع
فصل في قدرة الرب عز وجل
كاتب الموضوعرسالة
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
نائب المدير
الرتبه:
نائب المدير
الصورة الرمزية
 
ديني عصمــة أمــري

البيانات
البلد : مصر
انثى
عدد المساهمات : 2415
نقاط : 94804
التقيم : 23
تاريخ الميلاد : 04/05/1998
تاريخ التسجيل : 03/09/2010
العمر : 26
العمل/الترفيه : جمع الحسنات ورضا رب السماوات
الأوسمة : فصل في قدرة الرب عز وجل  1_125911
 
 

 

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:

 

موضوع: فصل في قدرة الرب عز وجل فصل في قدرة الرب عز وجل  Emptyالثلاثاء نوفمبر 02, 2010 4:20 am






السؤال:

فصل في قدرة الرب عز وجل

المفتي:

شيخ الإسلام ابن تيمية

الإجابة:

في قدرة الرب عز وجل

اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله على كل شيء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جدًا. وقد بسطت الكلام في الرد على من أنكر قدرة الرب في غير موضع، كما قد كتبناه على الأربعين، والمحصل وفي شرح الأصبهانية وغير ذلك، وتكلمنا على ما ذكره الرازي وغيره في مسألة كون الرب قادرًا مختارًا، وما وقع فيها من التقصير الكثير مما ليس هذا موضعه

والمقصود هنا: الكلام بين أهل الملل الذين يصدقون الرسل فنقول: هنا مسائل:

المسألة الأولى: قد أخبر الله أنه على كل شيء قدير، والناس في هذا على ثلاثة أقوال:

طائفة تقول: هذا عام يدخل فيه الممتنع لذاته من الجمع بين الضدين، وكذلك يدخل في المقدور، كما قال ذلك طائفة منهم ابن حزم

وطائفة تقول: هذا عام مخصوص يخص منه الممتنع لذاته، فإنه وإن كان شيئًا، فإنه لا يدخل في المقدور، كما ذكر ذلك ابن عطية وغيره، وكلا القولين خطأ

والصواب: هو القول الثالث الذي عليه عامة النظار، وهو: أن الممتنع لذاته ليس شيئًا البتة، وإن كانوا متنازعين في المعدوم، فإن الممتنع لذاته لا يمكن تحققه في الخارج، ولا يتصوره الذهن ثابتًا في الخارج، ولكن يقدر اجتماعهما في الذهن، ثم يحكم على ذلك بأنه ممتنع في الخارج؛ إذ كان يمتنع تحققه في الأعيان، وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل بأن يقال: قد تجتمع الحركة والسكون في الشيء، فهل يمكن في الخارج أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد، كما تجتمع الحركة والسكون؟ فيقال: هذا غير ممكن، فيقدر اجتماع نظير الممكن ثم يحكم بامتناعه، وأما نفس اجتماع البياض والسواد في محل واحد، فلا يمكن ولا يعقل، فليس بشيء لا في الأعيان ولا في الأذهان، فلم يدخل في قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [1]

المسألة الثانية: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج عند الجمهور وهو الصواب

وقد يطلقون أن الشيء هو الموجود، فيقال على هذا: فيلزم ألا يكون قادرًا إلا على موجود، وما لم يخلقه لا يكون قادرًا عليه، وهذا قول بعض أهل البدع، قالوا: لا يكون قادرًا إلا على ما أراده، دون ما لم يرده، ويحكى هذا عن تلميذ النظام. والذين قالوا: إن الشيء هو الموجود من نظار المثبتة كالأشعري، ومن وافقه من أتباع الأئمة؛ أحمد وغير أحمد، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهما يقولون: إنه قادر على الموجود، فيقال: إن هؤلاء أثبتوا ما لم تثبته الآية، فالآية أثبتت قدرته على الموجود، وهؤلاء قالوا: هو قادر على الموجود والمعدوم

والتحقيق: أن الشيء اسم لما يوجد في الأعيان، ولما يتصور في الأذهان، فما قدَّره الله وعلم أنه سيكون هو شيء في التقدير والعلم والكتاب، وإن لم يكن شيئًا في الخارج. ومنه قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [2]، ولفظ الشيء في الآية يتناول هذا وهذا، فهو على كل شيء ما وجد وكل ما تصوره الذهن موجودًا، إن تصور أن يكون موجودًا قديرًا، لا يستثنى من ذلك شيء، ولا يزاد عليه شيء، كما قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [3]، وقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [4]، وقد ثبت في الصحيحين: أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك». فلما نزل: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الآية قال: [5]. فهو قادر على الأولتين وإن لم يفعلهما، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [6]

قال المفسرون: لقادرون على أن نذهب به حتى تموتوا عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم. ومعلوم أنه لم يذهب به، وهذا كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} إلى قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [7]، وهذا يدل على أنه قادر على ما لا يفعله. فإنه أخبر أنه لو شاء جعل الماء أجاجًا وهو لم يفعله، ومثل هذا: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[8] 0 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [9]، {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلَ} [10]، فإنه أخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أشياء وهو لم يفعلها، فلو لم يكن قادرًا عليها؛ لكان إذا شاءها لم يمكن فعلها

المسألة الثالثة: أنه على كل شيء قدير، فيدخل في ذلك أفعال العباد وغير أفعال العباد. وأكثر المعتزلة يقولون: إن أفعال العبد غير مقدورة

المسألة الرابعة: أنه يدخل في ذلك أفعال نفسه، وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [11]، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [12]، {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [13] ونظائره كثيرة

والقدرة على الأعيان جاءت في مثل قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [14]، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [15]، وجاءت منصوصًا عليها في الكتاب والسنة0 أما الكتاب فقوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [16]، فبين أنه سبحانه يقدر عليهم أنفسهم، وهذا نص في قدرته على الأعيان المفعولة، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [17]، و{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [18] ونحو ذلك. وهو يدل بمفهومه على أن الرب هو الجبار عليهم المسيطر، وذلك يستلزم قدرته عليهم، وقوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [19] على قول الحسن وغيره من السلف ممن جعله من القدرة دليل على أن الله قادر عليه وعلى أمثاله، وكذلك قول الموصى لأهله: لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. فلما حرقوه أعاده الله تعالى وقال له: «ما حملك على ما صنعت؟» قال: خشيتك يا رب! فغفر له، وهو كان مخطئًا في قوله: لئن قدر الله علي ليعذبني كما يدل عليه الحديث، وإن الله قدر عليه، لكن لخشيته وإيمانه غفر الله له هذا الجهل والخطأ الذي وقع منه

وقد يستدل بقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} إلى قوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [20] على قول من جعله من القدرة، فإنه يتناول القدرة على المخلوقين وإن كان سبحانه قادرًا أيضا على خلقه، فالقدرة على خلقه قدرة عليه، والقدرة عليه قدرة على خلقه، وجاء أيضا الحديث منصوصًا في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود لما رآه يضرب عبده: «لله أقدر عليك منك على هذا»0 فهذا فيه بيان قدرة الرب على عين العبد، وأنه أقدر عليه منه على عبده، وفيه إثبات قدرة العبد

وقد تنازع الناس في قدرة الرب والعبد، فقالت طائفة: كلا النوعين يتناول الفعل القائم بالفاعل، ويتناول مقدوره وهذا أصح الأقوال، وبه نطق الكتاب والسنة، وهو أن كل نوع من القدرتين يتناول الفعل القائم بالقادر ومقدوره المباين له، وقد تبين بعض ما دل على ذلك في قدرة الرب. وأما قدرة العبد، فذكر قدرته على الأفعال القائمة به كثيرة، وهذا متفق عليه بين الناس الذين يثبتون للعبد قدرة، مثل قوله: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} [21]، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [22]، {وَسَيَحْلِفُونَ بِالله لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} الآية [23]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبِكَ»«2»

وأما المباين لمحل القدرة، فمثل قوله: {وَعَدَكُمْ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} إلى قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} إلى {قَدِيرًا} [24]، فدل على أنهم قدروا على الأول، وهذه يمكن أن يقدروا عليها وقتًا آخر. وهذه قدرة على الأعيان، وقوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} إلى قوله: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} الآية [25]

قال أبو الفرج: وفي قوله: {قّادٌرٌينّ} ثلاثة أقوال:

أحدها: قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. قلت: وهو قول مجاهد وقتادة، رواه ابن أبي حاتم عنهما. قال مجاهد: قادرين في أنفسهم، وهذا الذي ذكره البغوي: قادرين عند أنفسهم على جنتهم، وثمارها، لا يحول بينهم وبينها أحد، وعن قتادة قال: غدا القوم وهم يحدون إلى جنتهم، قادرين على ذلك في أنفسهم

قال أبو الفرج: والثاني: قادرين على المساكين، قاله الشعبي، أي: على منعهم. وقيل: على إعطائهم لكن البخل منعهم من الإعطاء، والله أعلم

والثالث: غدوا وهم قادرين، أى: واجدون، قاله ابن قتيبة

قلت: الآية وصفتهم بأنهم غدوا على حرد قادرين، فالحرد يرجع إلى القصد، فغدوا بإرادة جازمة وقدرة، ولكن الله أعجزهم. وقول من قال: قادرين عند أنفسهم، أى: ظنوا أن الأمر يبقى كما كان، ولو كان كذلك، لتمت قدرتهم، لكن سلبوا القدرة بإهلاك جنتهم

قال البغوي: الحرد في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب. قال الحسن وقتادة وأبو العالية: على جد وجهد. وقال القرطبي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم. قال: وهذا على معنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشيء جاد مجمع على الأمر. وقال أبو عبيدة والقُتَيبي: غدوا من أنفسهم على حرد: على منع المساكين، يقول: حاردت السَّنَةُ: إذا لم يكن لها مطر، وحاردت الناقة علىّ: إذا لم يكن لها لبن. وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين. وفي تفسير الوالبي: عن ابن عباس: على قدرة

قلت: الحرد فيه معنى العزم الشديد، فإن هذا اللفظ يقتضى هذا، وحرد السنة والناقة لما فيه من معنى الشدة، وكذلك الحنق والغضب فيه شدة؛ فكان لهم عزم شديد على أخذها، وعلى حرمان المساكين، وغدوا بهذا العزم قادرين ليس هناك ما يعجزهم وما يمنعهم، لكن جاءها أمر من السماء فأبطل ذلك كله، وقيل: الحرد: هو الغيظ والغضب، والله أعلم

ونظير هذا وهو صريح في المطلوب أن القدرة تكون على الأعيان، قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} الآية: [26]، وقوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [27]، يبين أنه لولا الجائحة لكان ظنهم صادقًا، وكانوا قادرين عليها، لكن لما أتاها أمر الله تبين خطأ الظن، ولو لم يكونوا قادرين عليها لا في حال سلامتها ولا في حال عطبها، لم يكن الله أبطل ظنهم بما أحدثه من الإهلاك، وهؤلاء لم يكونوا ذهبوا ليحصدوا، بل سلبوا القدرة عليها وهي القدرة التامة فانتفت لانتفاء المحل القابل؛ لا لضعف من الفاعل، وفي تلك قال: {عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [28]، ولم يقل: قادرين عند أنفسهم، فإن كان كما قاله من قال: عند أنفسهم فالمعنى واحد، وإن أريد بكونهم قادرين، أي: ليس في أنفسهم ما ينافى القدرة؛ كالمرض والضعف، ولكن بطل محل القدرة كالذي يقدر على النقد والرزق ولا شيء عنده

وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [29]، فهم في هذه الحال لا يقدرون مما كسبوا على شيء، فدل على أنهم في غير هذا يقدرون على ما كسبوا، وكذلك غيرهم يقدر على ما كسب، فالمراد بالمكسوب المال المكسوب

وقوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} [30]، فلما ذكر في المملوك أنه لا يقدر على شيء، ومقصوده أن الآخر ليس كذلك، بل هو قادر على ما لا يقدر عليه هذا، وهو إثبات الرزق الحسن مقدورًا لصاحبه، وصاحبه قادر عليه، وبهذا ينطق عامة العقلاء يقولون: فلان يقدر على كذا وكذا، وفلان يقدر على كذا وكذا، ومقدرة هذا دون مقدرة هذا

ومما يبين ذلك: أن الملك نائب للعباد على ما ملكهم الله إياه، والملك مستلزم للقدرة فلا يكون مالكًا إلا من هو قادر على التصرف بنفسه، أو بوليه أو وكيله، والعقد والمنقول مملوك لمالكه، فدل على أنه مقدور له، وقد قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [31]، لما كان قادرًا على التصرف في أخيه؛ لطاعته له جعل ذلك ملكا له، وقال تعالى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [32]، وقال تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [33] أي: مطيقين، فدل على أنهم صاروا مقرنين مطيقين لما سخرها لهم، فهو معنى قوله: {فّهٍمً لّهّا مّالٌكٍونّ}، وقد قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [34]، فدل على أنهم لو نقبوا ذلك لكانوا قد استطاعوا النقب، والنقب ليس هو حركة أيديهم، بل هو جعل الشيء منقوبًا، فدل على أن ذلك النقب مقدور للعباد

وأيضا، فالقرآن دل على أن المفعولات الخارجة مصنوعة لهم، وما كان مصنوعًا لهم فهو مقدور بالضرورة والاتفاق، والمنازع يقول: ليس شيء خارجًا عن محل قدرتهم مصنوعًا لهم، وهذا خلاف القرآن، قال تعالى لنوح: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، وقال: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [35]، وقد أخبر أن الفلك مخلوقة مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها من آياته، فقال: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [36]، {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [37]، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [38]، وقال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [39]

فجعل الأصنام منحوتة معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم فإن "ما" هاهنا بمعنى الذي، والمراد خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقًا للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد. وأما قول من قال: "ما" مصدرية، فضعيف جدًا

وقال تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [40]، وإنما دمر ما بنوه وعرشوه، فأما الأعراض التي قامت بهم، فتلك فنيت قبل أن يغرقوا، وقوله: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} دليل على أن العروش مفعول لهم، هم فعلوا العرش الذي فيه، وهو التأليف، ومثل قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [41]، يدل على أن المبني هم بنوه، حيث قال: {أَتَبْنُونَ}؟ وكذلك قوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [42]، هو كقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [43]، وقوله: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [44]، دل على أنهم جابوا الصخر، أي: قطعوه

ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [45]، فأمر بقتلهم، والأمر إنما يكون بمقدور العبد، فدل على أن القتل مقدور له، وهو الفعل الذي يفعله في الشخص فيموت، وهو مثل الذبح، ومنه قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [46]، وقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [47]، وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [48]، يدل على أن الصيد مقتول للآدمي الذي قتله، بخلاف قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ} [49]، فإنه مثل قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله} [50]، فإن قتلهم حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، مثل إنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وكذلك الرمي، لم يكن في قدرته أن التراب يصيب أعينهم كلهم، ويرعب قلوبهم، فالرمي الذي جعله الله خارجًا عن قدرة العبد المعتاد، هو الرمي الذي نفاه الله عنه

قال أبو عبيد: ما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله ظفرك وأيدك. وقال الزجاج: ما بلغ رميك كفًا من تراب، أو حصًا أن يملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله تولى ذلك. وذكر ابن الأنباري: ما رميت قلوبهم بالرعب، إذ رميت وجوههم بالتراب. ولهذا كان هذا أمرًا خارجًا عن مقدوره، فكان من آيات نبوته

وقيل: بل الرب تعالى لا يقدر إلا على المخلوق المنفصل لا يقوم به فعل يقدر عليه، والعبد لا يقدر إلا على ما يقوم بذاته، لا يقدر على شيء منفصل عنه، وهذا قول الأشعري ومن وافقه من أتباع الأئمة: كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم

وقيل: إن العبد يقدر على هذا وهذا، والرب لا يقدر إلا على المنفصل وهو قول المعتزلة، وقيل: إن كليهما يقدر على ما يقوم به دون المنفصل، وما علمت أحدًا قال: كلاهما يقدر على المنفصل دون المتصل

المسألة الخامسة: أن القدرة هي قدرته على الفعل، والفعل نوعان: لازم، ومتعد، والنوعان في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [51]، فالاستواء والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك أفعال لازمة، لا تتعدى إلى مفعول؛ بل هي قائمة بالفاعل، والخلق والرزق والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع، والهدى والنصر، والتنزيل ونحو ذلك، تتعدى إلى مفعول

والناس في هذين النوعين على ثلاثة أقوال:

منهم من لا يثبت فعلا قائما بالفاعل، لا لازمًا ولا متعديًا، أما اللازم فهو عنده منتفٍ، وأما المتعدى كالخلق فيقول: الخلق هو المخلوق، أو معنى غير المخلوق، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم كالأشعري ومتبعيه، وهذا أول قولي القاضي أبي يعلى، وقول ابن عقيل.

وكثير من المعتزلة يقولون: الخلق هو المخلوق. وآخرون يقولون: هو غيره، لكن يقولون: بأن الخلق له خلق آخر، كما يقوله مَعْمَر بن عَبَّاد، ويسمون أصحاب المعاني المتسلسلة. ومنهم من يقول: الخلق هو نفس الإرادة، كما يقوله من يقوله من بعض المعتزلة من أهل البصرة

والقول الثاني: أن الفعل المتعدي قائم بنفسه دون اللازم. فيقولون: الخلق قائم بنفسه ليس هو المخلوق. وهم على قولين:

منهم من جعل ذلك الفعل حادثًا

ومنهم من يجعله قديمًا، فيقول: التخليق والتكوين قديم أزلي. وهؤلاء منهم من يجعل عين التخليق شيئًا واحدًا هو قديم، والمخلوقين مادته؛ ولكنه قديم أزلي، ولا يثبتون نزولا قائمًا بنفسه، ولا استواء؛ لأن هذه حوادث وهذا قول الكُلابِيَّة الذين يقولون: فعله قديم مثل كلامه، كما قال أصحاب ابن خُزَيْمَة، وهو قول كثير من الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية، ومنهم من يجعل القديم هو النوع وأفراده حادثة، فعلى هذا القول يكون الفعل نفسه مقدورًا، وأما على قول من يجعله شيئًا معينًا، فهؤلاء إن قالوا: قديم، تناقضوا ولزمهم أن يكون القديم المعين مقدورًا، وإن قالوا: هو غير مقدور، تناقضوا؛ لأن الفعل يجب أن يكون مقدورًا، والله أعلم

والقول الثالث: إثبات الفعلين: اللازم والمتعدي كما دل عليه القرآن، فنقول: إنه كما أخبر عن نفسه: إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو قول السلف وأئمة السنة، وهو قول من يقول: إنه تقوم به الصفات الاختيارية كأصحاب أبي معاذ وزهير البابي وداود بن علي والكَرَّامِيَّة وغيرهم من الطوائف، وإن كانت الكرامية يقولون: بأن النزول والإتيان أفعال تقوم به، وهؤلاء يقولون: يقدر على أن يأتي ويجيء وينزل ويستوي، ونحو ذلك من الأفعال، كما أخبر عن نفسه، وهذا هو الكمال

وقد صرح أئمة هذا القول بأنه يتحرك، كما ذكر ذلك حرب الكَرْماني عن أهل السنة والجماعة، وسمى منهم: أحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم. وكذلك ذكره عثمان بن سعيد الدارمي عن أهل السنة، وجعل نفي الحركة عن الله عز وجل من أقوال الجهمية التي أنكرها السلف، وقال: كل حي متحرك، وما لا يتحرك فليس بحي. وقال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يتحرك، فقل: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء

وهؤلاء يقولون: من جعل هذه الأفعال غير ممكنة ولا مقدورة له، فقد جعله دون الجماد، فإن الجماد وإن كان لا يتحرك بنفسه فهو يقبل الحركة في الجملة. وهؤلاء يقولون: إنه تعالى لا يقبل ذلك بوجه ولا تمكنه الحركة، والحركة والفعل صفة كمال، كالعلم والقدرة والإرادة، فالذين ينفون تلك الصفات سلبوه صفات الكمال، فكذلك هؤلاء الكلابية

وأولئك نفاة الصفات إذا قيل لهم: لو لم يكن حيًا، عليمًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا؛ للزم أن يكون ميتًا، جاهلا، أصم، أعمى، أخرس، وهذه نقائص يجب تنزيهه عنها، فإنه سبحانه قد خلق من هو حي سميع بصير متكلم عالم، قادر متحرك، فهو أولى بأن يكون كذلك، فإن كل كمال في المخلوق المعلول فهو من كمال الخالق الذي يسمونه علة فاعلية.

وأيضا، فالقديم الواجب بنفسه أكمل من المحدث، فيمتنع أن يختص الناقص بالكمال. قالوا: وأما الجماد فلا يسمي حيًا ولا ميتًا. وقد ذكرنا في غير موضع الجواب عن هذه بأجوبة:

أحدها: أن قولهم: إن الجماد لا يسمى حيًا، وإنما يسمى ميتًا ما كان قابلا للحياة: هو اصطلاح، وإلا فالقرآن قد سمى الجماد ميتًا في غير موضع، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الآية [52]، فسمى الأصنام أمواتًا وهي حجارة، وقال: {وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [53]

الوجه الثاني: لا نسلم امتناع قبول هذه الحياة، بل الرب تعالى قد جعل الجمادات قابلة للحياة، ولا يمتنع قبولها لها، فإن الله تعالى قد جعل عصى موسى حية تسعى، فدل على أن الخشب يمكن أن يكون حيوانًا، وموسى لما اغتسل جعل ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، وقد أحيا الله الحوت المشوي الذي كان معه ومع فتاه، وقد سبح الحصا والطعام سبح وهو يؤكل وكان حجر يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع، والجبال سبحت مع داود، ونظائر هذا كثيرة، وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [54]

الوجه الثالث: أن يقال: هب أنه لا يوصف بالموت إلا ما قبل الحياة، فمعلوم أن ما قبل الحياة أكمل ممن لا يقبلها، فالجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح أكمل من الحجر، وقد قال تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [55]، فالجنين يمكن أن يصير حيًا في العادة، ناطقًا نطقًا يسمعه الإنسان السماع المعتاد، فهو أكمل من الحجر والتراب

وأيضا، فيقال لهم: رب العالمين إما أن يقبل الاتصاف بالحياة والعلم ونحو ذلك، وإما ألا يقبل، فإن لم يقبل ذلك ولم يتصف به، كان دون الأعمى الأصم الأبكم، وإن قبلها ولم يتصف بها، كان ما يتصف بها أكمل منه، فجعلوه دون الإنسان والبهائم، وهكذا يقال لهم في أنواع الفعل القائم به كالإتيان، والمجىء، والنزول، وجنس الحركة: إما أن يقبل ذلك وإما ألا يقبله، فإن لم يقبله، كانت الأجسام التي تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله، كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك، وما يقبل الحركة أكمل ممن لا يقبلها

والنفاة عمدتهم أنه لو قبل الحركة لم يخل منها، ويلزم وجود حوادث لا تتناهى، ثم ادعوا نفي ذلك وفي نفيه نقائص لا تتناهى، والمثبتون لذلك يقولون: هذا هو الكمال، كما قال السلف: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، كما قال ذلك ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما. وذكر البخاري عن نعيم بن حماد أنه قال: الحي هو الفعال، وما ليس بفعال فليس بحي. وقد عرف بطلان قول الجهمية وغيرهم بامتناع دوام الفعل والحوادث، كما قد بسط في غير هذا الموضع

والمقصود هاهنا، أن هؤلاء لا يجعلونه قادرًا على هذه الأفعال، وهي أصل الفعل، فلا يكون على شيء قدير على قولهم، بل ولا على شيء، وقد قال: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهٌِ} [56]. قال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: هذه في الكفار، فأما من آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره

وذكروا في قوله: {مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} [57]، ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما وصفوه حق صفته، وهذه الكلمة ذكرها الله في ثلاثة مواضع: في الرد على المعطلة، وعلى المشركين، وعلى من أنكر إنزال شيء على البشر، فقال في الأنعام: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [58]، وقال في الحج: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله} إلى قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [59]، وقال في الزمر: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [60]

وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن حبرًا من اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن الله يوم القيامة يجعل السموات على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية. وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، وكذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر: »يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟«، وفي لفظ لمسلم قال: «يأخذ الجبار تبارك وتعالى سمواته وأرضه بيديه جميعًا، فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، وأنا الملك، أين الجبارون؟وأين المتكبرون؟ !» ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم

وفي السنن: عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة»، ثم يسجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة. رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل. فقال في هذا الحديث: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة». وهذه الأربعة نوزع الرب فيها، كما قال: «أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، وقال عز وجل: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته»

ونفاة الصفات ما قدروا الله حق قدره، فإنه عندهم لا يمسك شيئًا ولا يقبضه ولا يطويه، بل كل ذلك ممتنع عليه، ولا يقدر على شيء من ذلك، وهم أيضا في الحقيقة يقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء لوجهين:

أحدهما: أن الإنزال إنما يكون من علو، والله تعالى عندهم ليس في العلو، فلم ينزل منه شيء، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [61]، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [62] إلى غير ذلك، وقولهم: إنه خلقه في مخلوق، ونزل منه باطل؛ لأنه قال: {مٍنّزَّلِ مٌَن رَّبٌَكّ} ولم يجئ هذا في غير القرآن، والحديد ذكر أنه أنزله مطلقًا، ولم يقل: منه، وهو منزل من الجبال، والمطر أنزل من السماء، والمراد: أنه أنزله من السحاب، وهو المزْن، كما ذكر ذلك في قوله: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ} [63]

والثاني: أنه لو كان من مخلوق لكان صفة له وكلاما له، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل؛ ولأن الله لا يتصف بالمخلوقات، ولو اتصف بذلك لاتصف بأنه مصوت إذا خلق الأصوات، ومتحرك إذا خلق الحركات في غيره، إلى غير ذلك، إلى أن قال: فقد تبين أن الجهمية ما قدروا الله حق قدره، وإنهم داخلون في هذه الآية، وإنهم لم يثبتوا قدرته لا على فعل ولا على الكلام بمشيئته، ولا علي نزوله، ولا على إنزاله منه شيئًا، فهم من أبعد الناس عن التصديق بقدرة الله، وأنه على كل شيء قدير، وإذا لم يكن قديرًا لم يكن قويًا، ويلزمهم أنه لم يخلق شيئًا، فيلزمهم الدخول في قوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [64]

فهم ينفون حقيقة قدرته في الأزل، وحقيقة قولهم: إنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، والقدرة التي يثبتونها لا حقيقة لها

وهذا أصل مهم، من تصوره عرف حقيقة الأقوال الباطلة، وما يلزمها من اللوازم، وعرف الحق الذي دل عليه صحيح المنقول، وصريح المعقول، لا سيما في هذه الأصول التي هي أصول كل الأصول، والضالون فيها لما ضيعوا الأصول حرموا الوصول، وقد تبين أنه كلما تحققت الحقائق، وأعطى النظر والاستدلال حقه من التمام؛ كان ما دل عليه القرآن هو الحق، وهو الموافق للمعقول الصريح الذي لم يشتبه بغيره مما يسمى معقولا، وهو مشتبه مختلط، كما قال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} [65]، قال: هم أهل البدع والشبهات، فهم في أمور مبتدعة في الشرع، مشتبهة في العقل

والصواب: هو ما كان موافقًا للشرع مبينًا في العقل، فإن الله سبحانه أخبر أن القرآن منزل منه، وأنه تنزيل منه، وأنه كلامه، وأنه قوله، وأنه كفر من قال: إنه قول البشر، وأخبر أنه قول رسول كريم من الملائكة ورسول كريم من البشر، والرسول يتضمن المرسل، فبين أن كلا من الرسولين بلغه، لم يحدث هو منه شيئًا، وأخبر أنه جعله قرآنًا عربيًا، وقال عما ينزل منه جديدًا بعد نزول غيره قديمًا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [66]، وأخبر أن للكلام المعين وقتًا معينًا، كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى}[67]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [68]

والذين قالوا: إنه مخلوق، ليس معهم حجة إلا ما يدل على أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وهذا حق، لكن ضموا إلى ذلك أن ما كان بمشيئته لا يقوم بذاته، فغلطوا ولبسوا الحق بالباطل، فضموا ما نطق به القرآن الموافق للشرع والعقل إلى ما أحدثوه من البدع والشبهات

وكذلك الذين قالوا: إنه قديم، ليس معهم إلا ما يدل على أنه قائم بذاته، لكن ضموا إلى ذلك أن ما يقوم بذاته لا يكون بمشيئته وقدرته، فأخطؤوا في ذلك ولبسوا الحق بالباطل، وأولئك فسروا قوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [69]، بأنه جعله بائنًا عنه مخلوقًا، وقالوا: جعل بمعنى: خلق، وهؤلاء قالوا: جعلناه: سميناه، كما في قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا} [70]، وهذا إنما يقال فيمن اعتقد في الشيء صفة حقًا أو باطلا إذا كانت الصفة خفية، فيقال: أخبرعنه بكذا، وكون القرآن عربيًا أمر ظاهر لا يحتاج إلى الإخبار، ثم كل من أخبر بأنه عربي فقد جعله عربيًا بهذا الاعتبار، والرب تعالى اختص بجعله عربيًا، فإنه هو الذي تكلم به وأنزله، فجعله قرآنًا عربيًا بفعل قام بنفسه وهو تكلم به، واختاره لأن يتكلم به عربيًا عن غير ذلك من الألسنة باللسان العربي وأنزله به

ولهذا قال أحمد: الجعل من الله قد يكون خلقًا وقد يكون غير خلق، فالجعل فعل، والفعل قد يكون متعديًا إلى مفعول مباين له؛ كالخلق، وقد يكون الفعل لازمًا وإن كان له مفعول في اللغة كان مفعوله قائمًا بالفعل؛ مثل التكلم، فإن التكلم فعل يقوم بالمتكلم والكلام نفسه قائم بالمتكلم، فهو سبحانه جعله قرآنًا عربيًا، فالجعل قائم به والقرآن العربي قائم به، فإن الكلام يتضمن شيئين: يتضمن فعلا؛ هو التكلم، والحروف المنظومة والأصوات الحاصلة بذلك الفعل؛ ولهذا يجعل القول تارة نوعًا من الفعل، وتارة قسيمًا للفعل، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، والله أعلم

وقد ذكرت في غير هذا الموضع: أنه ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل، إلا وذلك الدليل إذا أعطى حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل؛ تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به، وأنه دليل لأهل الحق، وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقا، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا، والله أعلم

المسألة السادسة: دوام كونه قادرًا في الأزل والأبد، فإنه قادر ولا يزال قادرًا على ما يشاؤه بمشيئته، فلم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء، وهذا قول السلف والأئمة كابن المبارك وأحمد

إلى أن قال: وفي صحيح البخاري تعليقًا عن سعيد بن جبير؛ أن رجلا سأل ابن عباس عن قوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} [71]، {وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} [72]، {وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا}[73]، فكأنه كان فمضى، فقال ابن عباس: قوله: {وَكَانَ الله}، {وَكَانَ الله} فإنه يجل نفسه عن ذلك، وسمى نفسه بذلك لم يجله أحد غيره، وكان أي: لم يزل كذلك. رواه عبد بن حميد في تفسيره مسندًا موصولا، ورواه ابن المنذر أيضا في تفسيره، وهذا لفظ رواية عبد

والمقصود هنا التنبيه على تنازع الناس في مسألة القدرة. وفي الحقيقة أنه من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرًا، فالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة والقدرية المجبرة والنافية، حقيقة قولهم: إنه ليس قادرًا وليس له الملك، فإن الملك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلابد من القدرة، فمن لم يثبت له القدرة حقيقة لم يثبت له ملكًا، كما لا يثبتون له حمدًا

إلى أن قال: وأيضا فالقديم الأزلي: القيوم الصمد الواجب الوجود بنفسه، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، أحق بالكمال من الممكن المحدث المفتقر، فيمتنع أن يكون هذا قادرًا على الكلام والفعل، والقيوم الصمد ليس قادرًا على الفعل والكلام، إلى أن قال:

والمقصود هنا أنه سبحانه عدل لا يظلم وعدله إحسان إلى خلقه، فكل ما خلقه فهو إحسان إلى عباده؛ ولهذا كان مستحقًا للحمد على كل حال؛ ولهذا ذكر في سورة النجم أنواعًا من مقدوراته، ثم قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [74]، فدل على أن هذه الأنعم مثل إهلاك الأمم المكذبة للرسل، فإن في ذلك من الدلالة على قدرته وحكمته ونعمته على المؤمنين ونصره للرسل، وتحقيق ما جاؤوا به، وأن السعادة في متابعتهم والشقاوة في مخالفتهم ما هو من أعظم النعم

وكذلك ما ذكره في سورة الرحمن، وكل مخلوق هو من آلائه من وجوه: منها أنه يستدل به عليه وعلى توحيده وقدرته وغير ذلك، وأنه يحصل به الإيمان والعلم وذكر الرب. وهذه النعمة أفضل ما أنعم الله به على عباده في الدنيا، وكل مخلوق يعين عليها ويدل عليها، هذا مع ما في المخلوقات من المنافع لعباده غير الاستدلال بها، فإنه سبحانه يقول: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [75] ؛ لما يذكر ما يذكره من الآية، وقال: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى}، والآلاء: هي النعم، والنعم كلها من آياته الدالة على نفسه المقدسة ووحدانيته ونعوته ومعاني أسمائه، فهي آلاء آيات، وكل ما كان من آلائه فهو من آياته، وهذا ظاهر، وكذلك كل ما كان من آياته فهو من آلائه، فإنه يتضمن التعريف والهداية والدلالة على الرب تعالى وقدرته وحكمته ورحمته ودينه، والهدى أفضل النعم.

وأيضا، ففيها نعم ومنافع لعباده غير الاستدلال، كما في خلق الشمس والقمر والسحاب والمطر والحيوان والنبات، فإن هذه كلها من آياته، وفيها نعم عظيمة على عباده غير الاستدلال، فهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلالة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [76]، وقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [77]، فإن العبد يدعوه إلى عبادة الله داعي الشكر وداعي العلم، فإنه يشهد نعم الله عليه، وذاك داع إلى شكرها، وقد جبلت النفوس علي حب من أحسن إليها، والله تعالى هو المنعم المحسن الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده، كما في الحديث: «من قال إذا أصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قال ذلك إذا أمسى فقد أدى شكر تلك الليلة»0 رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وفي حديث آخر: «من قال: الحمد لله ربي لا أشرك به شيئًا أشهد أن لا إله إلا الله»

وقد ذم سبحانه من كفر بعد إيمانه كما قال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}الآية [78]، فهذا في كشف الضر، وفي النعم قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [79]، أي: شكركم، وشكر ما رزقكم الله، ونصيبكم تجعلونه تكذيبًا وهو الاستسقاء بالأنواء، كما ثبت في حديث ابن عباس الصحيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر»، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نَوْء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [80] رواه مسلم

وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغَيْث فيقول: الكوكب كذا وكذا»، وفي لفظ له: «بكوكب كذا وكذا»، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح على إثر سَمَاء كانت من الليل، قال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟». قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب»، وهذا كثير جدًا في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشركه به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا

ولهذا قرن الشكر بالتوحيد في الفاتحة وغيرها؛ أولها شكر، وأوسطها توحيد، وفي الخطب المشروعة لابد فيها من تحميد وتوحيد، وهذان هما ركن في كل خطاب، ثم بعد ذلك يذكر المتكلم من مقصوده ما يناسب من الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وغير ذلك

وقوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد»، يتضمن التوحيد والتحميد، وكذلك كان يقول عقب الصلاة: «لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون»، وهو سبحانه يفتتح خطابه بالحمد ويختم الأمور بالحمد، وأول ما خلق آدم كان أول شيء أنطقه به الحمد، فإنه عطس فأنطقه بقوله: الحمد لله، فقال له: يرحمك ربك يا آدم! وكان أول ما تكلم به الحمد، وأول ما سمعه الرحمة

وهو يختم الأمور بالحمد كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [81]، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [82]، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [83]، وهو سبحانه: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [84]

والتوحيد أول الدين وآخره، فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله»، وقال لمعاذ: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله»، وختم الأمر بالتوحيد فقال في الصحيح من رواية مسلم عن عثمان: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، وفي الحديث الصحيح من رواية مسلم عن أبي هريرة: «لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله»، وفي السنن من حديث معاذ: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، وفي المسند«إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حين الموت إلا وجد روحه لها روحًا»، وهي الكلمة التي عرضها على عمه عند الموت

فهو سبحانه جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، فيتذكر الآيات المثبتة للعلم والإيمان، فإذا عرف آلاء الله شكره على آلائه، وكلاهما متلازمان، فالآيات والآلاء متلازمان، ما كان من الآلاء فهو من الآيات، وما كان من الآيات فهو من الآلاء، وكذلك الشكر والتذكر متلازمان، فإن الشاكر إنما يشكر بحمده، وطاعته، وفعل ما أمر به، وذلك إنما يكون بتذكر ما تدل عليه آياته من أسمائه وممادحه، ومن أمره ونهيه، فيثنى عليه بالخير، ويطاع في الأمر هذا هو الشكر، ولابد فيهما من التذكر، والمتذكر إذا تذكر آياته عرف ما فيها من النعمة والإحسان، فآياته تعم المخلوقات كلها، وهي خير ونعم وإحسان.

فكل ما خلقه سبحانه فهو نعمة على عباده، وهو خير، وهو سبحانه بيده الخير، والخير بيديه، وفي دعاء القنوت«ونثني عليك الخير كله»، وفي دعاء الاستفتاح: «والخير بيديك، والشر ليس إليك»

وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة، كما قال: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [85]، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [86]، وهو سبحانه غني عن العالمين، فالحكمة تتضمن شيئين:

أحدهما: حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها

والثاني: إلى عباده، هي نعمة عليهم يفرحون بها ويلتذون بها، وهذا في المأمورات وفي المخلوقات

أما في المأمورات، فإن الطاعة هو يحبها ويرضاها، ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يعرفه الناس، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه، فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه، ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة، وذلك مما يفرح به العبد المطيع، فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍُ. تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} [87]

ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها، وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار، وقد قال في أول السورة: {إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [88]، فهو يحب ذلك، ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى، وفيه رحمة للعباد، وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة، هكذا سائر ما أمر به، وكذلك ما خلقه خلقه لحكمة تعود إليه يحبها، وخلقه لرحمة بالعباد ينتفعون بها

والناس لما تكلموا في علة الخلق وحكمته؛ تكلم كل قوم بحسب علمهم، فأصابوا وجهًا من الحق، وخفى عليهم وجوه أخرى

وهكذا عامة ما تنازع فيه الناس، يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشيء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق، فهم جاؤوا بالصدق وصدقوا به فلا يختلفون

ولأهل الكلام هنا ثلاثة أقوال لثلاث طوائف مشهورة، وقد وافق كل طائفة ناس من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد:

القول الأول: قول من نفى الحكمة وقالوا: هذا يفضي إلى الحاجة، فقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا له القدرة والمشيئة، وإنه يفعل ما يشاء. وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة، وهذا قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يَعْلَى وابن الزاغوني والجُوَيْني والباجي ونحوهم، وهذا القول في الأصل قول جَهْم ابن صفوان ومن اتبعه من المجبرة

والفلاسفة لهم قول أبعد من هذا، وهو: أن ما يقع من عذاب النفوس وغير ذلك من الضرر لا يمكن دفعه، فإنهم يقولون: إنه موجب بذاته، وكل ما يقع هو من لوازم ذاته. ولو قالوا: إنه موجب بمشيئته وقدرته لما يفعله لكانوا قد أصابوا، وقد قالوا أيضا: ال















 الموضوع الأصلي : فصل في قدرة الرب عز وجل //   المصدر : منتديات فارس أون لاين // الكاتب: ديني عصمــة أمــري


فصل في قدرة الرب عز وجل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

مواضيع مماثلة

-
» فصل في قدرة الرب عز وجل
» فصل قول القائل: "ما لنا في جميع أفعالنا قدرة"
» فصل قول القائل‏:‏ "ما لنا في جميع أفعالنا قدرة"
» الجمع بين ‏[‏علو الرب عز وجل وبين قربه‏]‏
» فصلٌ في قرب العبد من ربه وقرب الرب من عبده


الكلمات الدليلية (Tags)
لا يوجد


الــرد الســـريـع
..

هام جداً: قوانين المساهمة في المواضيع. انقر هنا للمعاينة
الرد السريع

خــدمات المـوضـوع
 KonuEtiketleri كلمات دليليه
فصل في قدرة الرب عز وجل , فصل في قدرة الرب عز وجل , فصل في قدرة الرب عز وجل ,فصل في قدرة الرب عز وجل ,فصل في قدرة الرب عز وجل , فصل في قدرة الرب عز وجل
 KonuLinki رابط الموضوع
 Konu BBCode BBCode
 KonuHTML Kodu HTMLcode
إذا وجدت وصلات لاتعمل في الموضوع او أن الموضوع [ فصل في قدرة الرب عز وجل ] مخالف ,, من فضلك راسل الإدارة من هنا
>




مواضيع ذات صلة


فصل في قدرة الرب عز وجل  Cron
تصميم منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين

منتديات فارس أون لاين